الوقت المقدر للقراءة: 11 دقائق

السلوك السعري (Price Action) بلغة بسيطة

تخيّل نفسك في سوق شعبي مزدحم. بدلًا من سؤال البائعين عن الأسعار أو الاعتماد على آراء الآخرين، تقف وتراقب: من يشتري؟ من يتراجع؟ متى يتحمّس الناس؟ ومتى يتردّدون؟ هذا النوع من المراقبة الصامتة يشبه تمامًا ما يقوم به المتداول الذي يعتمد على السلوك السعري (Price Action)؛ حيث لا يستخدم المؤشرات الفنية أو الأدوات المعقدة، بل يقرأ السوق من خلال حركته الخام.

في هذا الأسلوب، كل شمعة على الرسم البياني تحكي قصة, كل صعود أو هبوط أو تذبذب هو رسالة من السوق، وعلى المتداول أن يفسّر هذه الرسائل لفهم ما يحدث بالفعل خلف الكواليس—دون الحاجة إلى فلاتر أو مؤشرات (Indicators) متأخرة.

الفلسفة الأساسية لأسلوب التداول بدون مؤشرات

لماذا قد يتخلى المتداول عن الأدوات اللامعة والمؤشرات الملونة التي تملأ الشاشات؟ الفلسفة وراء هذا الأسلوب بسيطة وعميقة: السعر هو المصدر الوحيد للحقيقة في السوق. كل الأخبار الاقتصادية، كل القرارات السياسية، وكل مشاعر الخوف والطمع التي تحرك ملايين المتداولين حول العالم، تنعكس في النهاية في شكل حركة واحدة: حركة السعر. المؤشرات الفنية، في معظمها، ليست سوى معادلات رياضية تُطبّق على بيانات السعر التاريخية. هي بمثابة “مترجم” يحاول شرح ما قاله السعر بالفعل. أما متداول السلوك السعري، فيفضل تعلم لغة السوق الأصلية بدلاً من الاعتماد على الترجمة. هذا النهج يمنحك رؤية أسرع وأكثر نقاءً، مما يتيح لك اتخاذ قرارات استباقية بدلاً من ردود فعل متأخرة.

أدوات المتداول الرئيسية

قد تظن أن التداول بدون مؤشرات يعني أنك أعزل، لكن العكس هو الصحيح. أدواتك تصبح أكثر دقة وتركيزًا. المتداول الذي يقرأ السعر يعتمد بشكل أساسي على:

1. الرسم البياني النظيف (Clean Chart): هذه هي لوحة الرسم الخاصة بك. كلما كانت أبسط وأقل تشويشًا، كانت رؤيتك أوضح.
2. الشموع اليابانية (Japanese Candlesticks): هي لغة السوق المرئية. كل شمعة تحكي قصة الصراع بين المشترين والبائعين خلال فترة زمنية محددة.
3. هيكل السوق (Market Structure): فهم ما إذا كان السوق في اتجاه صاعد، هابط، أم أنه يتحرك بشكل عرضي. هذا هو السياق الذي يمنح كل حركة معناها.
4. مناطق الدعم والمقاومة (Support and Resistance): هي المستويات السعرية التي أظهر عندها السوق “ذاكرة” في الماضي، ومن المرجح أن يتفاعل معها مجددًا.
5. خطوط الاتجاه (Trend Lines): أداة بصرية بسيطة لرسم مسار الاتجاه وتحديد نقاط الارتداد المحتملة.

قراءة الشموع اليابانية بشكل عملي

الشموع اليابانية ليست مجرد أشكال خضراء وحمراء، بل هي تمثيل حيّ لعلم النفس في السوق. لنأخذ مثالاً عمليًا:

• شمعة الابتلاع الصاعدة (Bullish Engulfing): تخيل أن السوق كان يهبط (شموع حمراء). فجأة، تظهر شمعة خضراء ضخمة “تبتلع” جسد الشمعة الحمراء التي سبقتها بالكامل. ماذا تقول هذه القصة؟ تقول إن المشترين دخلوا بقوة وسيطروا تمامًا على البائعين، مما قد يشير إلى انعكاس محتمل للاتجاه نحو الأعلى.
• شمعة المطرقة (Hammer): تظهر هذه الشمعة عادةً في قاع اتجاه هابط. يكون لها جسم صغير في الأعلى وذيل طويل جدًا في الأسفل. قصتها: حاول البائعون دفع السعر للأسفل بقوة (الذيل الطويل)، لكن المشترين عادوا في نهاية الفترة الزمنية وأغلقوا السعر بالقرب من سعر الافتتاح. إنها علامة على رفض السوق للأسعار المنخفضة، وقد تكون بداية لصعود قادم.

المفتاح ليس حفظ أسماء الأنماط، بل فهم “القصة” التي ترويها كل شمعة ضمن سياق السوق العام.

فهم هيكل السوق (Market Structure)

هيكل السوق هو الخريطة التي ترشدك. بدون فهمه، ستكون تائهًا. الأمر بسيط للغاية:

• الاتجاه الصاعد (Uptrend): يتكون من سلسلة من القمم الأعلى (Higher Highs – HH) والقيعان الأعلى (Higher Lows – HL). طالما أن السعر يواصل تكوين هذه السلسلة، فإن الاتجاه لا يزال صاعدًا.
• الاتجاه الهابط (Downtrend): يتكون من سلسلة من القمم الأدنى (Lower Highs – LH) والقيعان الأدنى (Lower Lows – LL). طالما استمر هذا النمط، فالاتجاه هابط.
• المدى العرضي (Range): عندما يتحرك السعر بين مستويين أفقيين (دعم ومقاومة) دون تكوين قمم أو قيعان جديدة صاعدة أو هابطة.

أقوى إشارات التداول تأتي عندما يتغير هذا الهيكل. على سبيل المثال، إذا كان السوق في اتجاه صاعد ثم فشل في تكوين قمة أعلى، وكسر بدلاً من ذلك آخر قاعٍ أعلى، فهذه إشارة قوية على أن البائعين بدأوا يسيطرون، والاتجاه قد ينعكس.

اعرف أكثر: ما هي استراتيجية الشراء المتدرج؟

أهمية قراءة السوق عبر الدعم والمقاومة 

مناطق الدعم والمقاومة هي حجر الزاوية في تحليل السعر.

• الدعم (Support): هو مستوى سعري أو منطقة يميل السعر إلى الارتداد منها صعودًا. فكر فيه كـ “أرضية” تمنع السعر من الهبوط أكثر. يتشكل هذا المستوى لأن المشترين يعتبرونه سعرًا جيدًا للشراء، فيدخلون بكثافة.
• المقاومة (Resistance): هو مستوى سعري أو منطقة يميل السعر إلى الارتداد منها هبوطًا. فكر فيه كـ “سقف” يمنع السعر من الصعود أكثر. هنا، يرى البائعون فرصة للبيع وجني الأرباح.

الأهمية الكبرى تكمن في “تبادل الأدوار”. عندما يتم كسر مستوى مقاومة قوي، فإنه غالبًا ما يتحول إلى مستوى دعم جديد، والعكس صحيح. هذه الظاهرة (تُعرف بـ “Break and Retest”) هي أساس العديد من استراتيجيات التداول الفعالة.

الفرق بين تحليل السعر والمؤشرات الفنية

لفهم الفارق بشكل حاسم، دعنا نضع المقارنة في نقاط:

استراتيجيات فعالة باستخدام السلوك السعري

تتميز هذه الاستراتيجية ببساطتها وفعاليتها. إليك مثالان:

1. استراتيجية الكسر وإعادة الاختبار (Break and Retest):
   • الخطوة 1: حدد مستوى مقاومة واضحًا كان السعر قد ارتد منه مرتين على الأقل.
   • الخطوة 2: انتظر حتى يخترق السعر هذا المستوى للأعلى بشمعة قوية. لا تدخل الصفقة بعد!
   • الخطوة 3: انتظر عودة السعر (Retest) ليختبر مستوى المقاومة المكسور، والذي أصبح الآن دعمًا.
   • الخطوة 4: ابحث عن إشارة تأكيد شرائية عند هذا المستوى الجديد (مثل شمعة ابتلاع صاعدة أو مطرقة). هذه هي إشارة الدخول.
2. استراتيجية الارتداد من خط الاتجاه (Trendline Bounce):
   • الخطوة 1: في اتجاه صاعد واضح، ارسم خط اتجاه يربط بين القيعان الصاعدة (Higher Lows).
   • الخطوة 2: في كل مرة يسحب فيها السعر للأسفل ليلامس خط الاتجاه، انتظر.
   • الخطوة 3: عند ملامسة خط الاتجاه، ابحث عن شمعة يابانية إيجابية تؤكد رفض السعر للهبوط واستمرار الاتجاه. هذه إشارة للشراء.

الدخول والخروج وفق السلوك السعري (Price Action)

كل صفقة ناجحة تحتاج إلى خطة واضحة. إليك كيف يساعدك تحليل السعر في ذلك:

• نقطة الدخول (Entry): لا تكون عشوائية أبدًا. يجب أن تستند إلى تأكيد واضح، مثل إغلاق شمعة ابتلاع فوق مستوى دعم، أو كسر هيكل سوق ثانوي.
• وقف الخسارة (Stop Loss): يتم وضعه في مكان منطقي يثبت أن تحليلك كان خاطئًا. على سبيل المثال، إذا اشتريت عند مستوى دعم، فإن وضع وقف الخسارة أسفل هذا المستوى مباشرة هو قرار منطقي. إذا تم ضربه، فهذا يعني أن الدعم قد فشل.
• جني الأرباح (Take Profit): يتم تحديده عند العائق المنطقي التالي أمام السعر. إذا اشتريت عند دعم، فإن هدف الربح الطبيعي يكون عند مستوى المقاومة التالي.

تابع القراءة: وقف الخسارة – Stop Loss: حماية أساسية في تداول الفوركس

أشهر المدارس التي تدرّس Price Action

تطورت قراءة السعر عبر عقود، وظهرت مدارس مختلفة، لكل منها تركيزها الخاص:

• مدرسة آل بروكس (Al Brooks): تعتبر الأكثر تفصيلاً، حيث تحلل كل شمعة على حدة (Micro-level) وتناسب المتداولين اليوميين (Scalpers).
• مدرسة سام سيدن (Sam Seiden) – العرض والطلب: هي تطور لمفهوم الدعم والمقاومة، وتركز على تحديد “مناطق” العرض والطلب القوية التي تسببت في تحركات كبيرة في الماضي.
• مدرسة Inner Circle Trader (ICT): منهجية أكثر تعقيدًا تدمج مفاهيم مثل “فجوات القيمة العادلة” و”كتل الأوامر” مع هيكل السوق لتحديد نقاط دخول دقيقة.

كيف تتدرب وتتقن تحليل حركة السعر؟

إتقان هذه المهارة يتطلب وقتًا وممارسة. اتبع هذه الخطوات العملية:

1. ابدأ برسم بياني نظيف: أول خطوة هي إزالة كل المؤشرات من شاشتك لتعتاد عيناك على قراءة السعر النقي.
2. تعلم الأساسيات أولاً: ركز على إتقان مفهوم واحد في كل مرة. ابدأ بالدعم والمقاومة، ثم هيكل السوق، ثم أنماط الشموع الأساسية.
3. الاختبار الرجعي (Backtesting): افتح الرسم البياني لأي أصل مالي، وارجع بالزمن إلى الوراء. ابدأ بالتحرك شمعة تلو الأخرى، وحاول التنبؤ بالحركة التالية بناءً على تحليلك. سجل نتائجك.
4. التداول على حساب تجريبي (Demo): بعد بناء الثقة من الاختبار الرجعي، انتقل إلى حساب تجريبي للتداول في بيئة حية دون المخاطرة بأموال حقيقية. هذا يعلمك التحكم في المشاعر.
5. احتفظ بمجلة تداول: سجل كل صفقة تقوم بها. اكتب سبب دخولك، ما الذي حدث، وماذا تعلمت. هذه الأداة هي أسرع طريق لتحديد نقاط ضعفك وتقويتها.

اقرأ المزيد: استخدام الرسوم البيانية مخططات الشموع اليابانية

خاتمة: إتقان لغة السوق

في النهاية، اختيارك لتحليل السلوك السعري يعني أنك قررت تعلم لغة السوق مباشرة، بدلاً من انتظار المؤشرات لتترجم لك ما حدث بالفعل.

قد يتطلب الأمر صبراً، لكن المكافأة هي الوضوح في اتخاذ القرار ورؤية الفرص قبل الجميع. رحلتك تبدأ بخطوة واحدة: نظّف الرسم البياني، وابدأ بقراءة القصة التي يرويها السعر، فهذه هي أسرع طريق لإتقان التداول.

اقرأ المزيد: دليلك الشامل إلى المؤشرات الفنية الأساسية